نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أعده كونستانت مهيو قال فيه إن روائيا كتب عن الاستعمار الفرنسي للجزائر تحول إلى نجم مشهور وبخاصة روايته الأخيرة، وهو ما يشي بتغير الوقت. وقال ماتيو بيليزي “من واجبي طرح الأسئلة، الأسئلة التي لا يريد الناس طرحها”.
ويعتبر الاهتمام بروايات بيليزي تحولا، فقد ظل يكتب ولسنوات عن الجزائر بل واعترف بالعنف الذي ارتكبته فرنسا هناك، لكنه كان صوتا وحيدا يغرد خارج السرب. وظل الروائي الفرنسي جيرارد- مارشال برينسو ينشر تحت اسم مستعار وهو ماتيو بيليزي وقضى 15 عاما يكتب عن سنوات الاستعمار الفرنسي الأولى وبمجهولية تامة.
ولم تحظ رواياته إلا باهتمام بضعة آلاف من القراء، وذلك بسبب ما يعتقده بيليزي “عدم الراحة” مع الماضي الذي يتحدى صورة فرنسا كمنارة حقوق إنسان.
لكن التاريخ الماضي هذا أرغمه على ذلك. وقد تغير حظه بروايته الرابعة “الهجوم على الأرض والشمس”، التي تعيد حكاية الاستعمار الفرنسي الوحشي للجزائر في القرن التاسع عشر ونشرت العام الماضي. وأصبحت شهرتها مفاجأة في بلد ظل يتجنب أو يفضل نسيان تاريخ الفترة الاستعمارية للجزائر، وحاز الكتاب على جائزة مرموقة وبيع منه حوالي 90 ألف نسخة.
ونسيان الفرنسيين الماضي واضح في حالة الجزائر، التي استعمرتها فرنسا 132 عاما قبل أن تخرج منها في حرب الاستقلال الدموية، التي خلفت ندوبا عميقة.
وفي بلد تعتبر الأعمال الأدبية الأكثر شيوعا بمثابة اختبار روشاخ (يقوم على تحليل الإدراك والتصورات النفسية عن بقع من الحبر ودراستها بناء على المفاهيم النفسية والخوارزميات المعقدة)، فشعبية روايته الأخيرة هي صورة عن الأزمنة المتغيرة.
ففي السنوات الأخيرة حاولت فرنسا الاعتراف بتاريخها في الجزائر، حيث دفع بحث البلد في إرثه الاستعماري لظهور موجة من الكتب والأفلام. وفي مقابلة مع “نيويورك تايمز” قال بيليزي “ظل التاريخ ولوقت طويل تابو”، وعلق الكاتب البالغ من العمر 69 عاما ويتحدث بصوت هادئ: “كان من واجبي طرح الأسئلة، وبخاصة الأسئلة التي لا يريد الناس طرحها، والأدب يساعد في هذا أيضا”. ولعل تجربة بيليزي نابعة من علاقته المباشرة بتاريخ فرنسا في الجزائر، فهو نجل عامل مصنع وخدم بالجيش الفرنسي في الجزائر قبل حرب الاستقلال ورفض طوال الوقت الحديث عن تلك التجربة. وقال بيليزي إن استعمار فرنسا للجزائر ظل يحيره “ذهبنا لتحضير ما أطلق عليهم البرابرة ولكننا كنا نحن البرابرة” و”سرقنا الأرض وهدمنا مساجدهم”.
وفي بداية العقد الأول من القرن الحالي بدأ بدراسة التاريخ، واكتشف كما يقول “منطقة أدبية” من العنف التي لم تستكشف بعد وقدمت مادة مهمة للروائي.
وفي مشهد من رواية بيليزي يصف فيه الجنود الفرنسيين وهم مسرعون نحو قرية جزائرية في المناطق الجبلية مع حلول الظلام، وكانوا مسلحين بالحراب وقتلوا السكان الذين تجرأوا على المقاومة، “وبعجوا بطونهم ورفعوهم عن الأرض على مسافة ذراع مثل الدجاج المشوي” ثم قاموا بالنهب واغتصاب النساء وتركوا الناجين يموتون من البرد في العراء. ويخبر الكابتن جنوده “أنتم لستم ملائكة” وردوا “هذا صحيح كابتن، لسنا ملائكة”.
وبدأ غزو فرنسا للجزائر في عام 1830 كحملة عسكرية استكشافية عقابية ضد مدينة الجزائر التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وبعد خلاف دبلوماسي. لكن الحملة تحولت إلى عملية استعمار شامل استمرت قرنا وأدت إلى مقتل حوالي 800 ألف جزائري.
وتقول المؤرخة كوليت زيتنيكي من جامعة تولوز: “كانت الأيام الأولى للاستعمار مرعبة”، وأشارت إلى عمليات القتل الجماعي التي ارتكبها الجنود الفرنسيون ضد الجزائريين، والتي شملت خنقهم بالدخان في المغاور التي اتخذوها ملجأ، وكذلك مقتل الكثير من المستوطنين الفرنسيين من الجوع والمرض. ويبرز بيليزي هذا العنف في رواياته الثلاث الأولى والتي نشرها ما بين 2008- 2015، وأقام مادتها على رسائل من المستوطنين والجنود وجدها في الأرشيف العام، وأبرز العنصرية التي دعمت الاستعمار والجشع الذي قاد لمصادرة الأراضي وكذلك الشكوك التي نخرت عظام المستوطنين الذين فروا إلى فرنسا من الجوع.
وقال بيليزي “في ثمانينيات القرن التاسع عشر كانت فرنسا مثل الغرب” الأمريكي المتوحش، ولكن على خلاف الروايات الشعبية عن الأمريكيين في الجبهات، فإن رواياته لم تلفت انتباه أبعد من النقاد الأدبيين المتحمسين. من الصعب الحصول على رواياته الأولى، حيث كتب عددا منها ولامس العديد من الموضوعات.
وظل بيليزي وعلى مدار السنين يعتاش على ما يقول إنها “أعمال متنوعة” وغريبة، فقد باع شواهد القبور وزرع التنباك في المزارع ودرس التاريخ بالمدارس. ولم يدع بيليزي أبدا لمقابلة تلفازية، ولا حتى إلى اللقاءات الأدبية المعروفة بالبلد، وحتى بعد النجاح الكبير لروايته الأخيرة فـ”الناس خائفون مما قد أقول”.
وبعدما أكمل كتابة روايته الرابعة عن الجزائر “مهاجمة الأرض والشمس” والتي قدمها من خلال صوت مستوطن وجندي، قال إنه أرسلها لخمسة ناشرين كلهم ردوا عليه بأدب ولكن الرفض. وقال “اعتقدت أن الأمر قد انتهى وأنني سأواصل الآن الكتابة لنفسي، ولن أنشر أبدا”، وتخيل كيف ستتم إعادة اكتشاف رواياته بعد وفاته في أكشاك الكتب على ضفاف نهر السين. حتى تلقى مكالمة من مؤسس دار نشر “لو تريبود” فردريك مارتين، الذي قال “لقد علقت من الكلمات الأولى”، وكان بيليزي قد أرسل المخطوطة إلى دار النشر الصغيرة كفعل يائس. وقال لبيليزي إنه لن ينشر الرواية هذه فحسب بل وسيعيد طباعة رواياته السابقة. وقال مارتن إنه انجذب إلى “الأسلوب المتفرد بالكتابة” لبيليزي والذي يتجنب الوقفات التاريخية الطويلة ولشاعريته والتاريخ الذي تكشفه راوياته بقوة.
ويتفق النقاد مع هذا الرأي بقوة، إذ يقول بييرأسولاين، المحكم في جائزة غونكور الأعلى رتبة في الأدب الفرنسي، “لم يظهر الأدب الفرنسي إلا في النادر اهتماما ببداية الاستعمار” و”قد حان الوقت”. وأخبر فردريك بيغبيدر، الروائي الفرنسي الشهير، محطة إذاعية مؤثرة أن الرواية علمته الكثير وأكثر “مما علمه أحد عن الاستعمار الفرنسي للجزائر وبهذه الطريقة”. ويلمح الروائي هذا للجزائر والمعاناة التي تجاهلها الكتاب من أجل صورة وردية، مع أنها مشوهة، عن الاستعمار والتركيز على الفتح والمعجزة الاقتصادية التي روج لها الروائيون.
ومن بداية 2005، طلب قانون فرنسي من المدرسين تدريس حصص عن “الدور الإيجابي” للاستعمار. وتم رفع القرار بعد عام نتيجة للغضب لكن عدم الراحة من تدريس الماضي تواصل.
وفي مجال الجزائر، فمعظم الروايات التي تحدثت عنها تناست هذا التاريخ وركزت على مرحلة التخلص من آثار الاستعمار وحرب التحرير الجزائرية، وهي مرحلة متوترة والتي يقول الخبراء إن فهمها مرتبط بمعرفة العنف الأول للاستعمار. وقال جاك فريمو، المؤرخ بجامعة السوربون بباريس، “حان الوقت لاستبدال عدد من النمطيات بواقع أكثر فظاظة”. وربما كان نجاح “مهاجمة الأرض والشمس” هو هذا ما يشير إليه المؤرخ. وبعد حصول الرواية على جائزة من لوموند وفرانس إنتر، أكبر صحيفة ومحطة إذاعية، صعدت الرواية إلى قائمة الروايات الأكثر مبيعا. والعمل جار على ترجمتها لثماني لغات والترجمة للإنكليزية بالطريق. وسيتم نشر نسخة مدرسية مع خلفيات تاريخية العام المقبل.
وقالت المؤرخة زيتنيكي إن نجاح الرواية مرتبط بالاهتمام المتجدد بتاريخ الاستعمار الفرنسي، حيث تناقش البلاد الاستعمار وتجارة الرقيق، وهناك كتب وبودكاست، بل ولفت معرض عن الأمير عبد القادر، الذي قاد المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي في العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر، انتباه الرأي العام.
وشكل الرئيس إيمانويل ماكرون لجنة لدراسة الأرشيف ودراسة الفترة، اعترافا منه بضرورة معالجة الماضي المؤلم.
ويأمل بيليزي أن يتم تذكره بأنه “الرجل الذي بدأ بالعمل” وأضاء على التاريخ. ويشير لما قاله ماكرون العام الماضي عندما وصف العلاقات الفرنسية- الجزائرية بأنها “قصة حب لها جانب تراجيدي”، ولكن بالنسبة للروائي “علي الاستمرار بالعمل”.
قم بكتابة اول تعليق