من قاعة الاتهام إلى ميدان الشرف.. العميد الصادقي أيقونة الانضباط والانبعاث من رماد المحن

محمد بنهيمة – مدير موقع أفريقيا بلوس ميديا بالنيابة

في زمنٍ تتبدّل فيه الوجوه وتختلط فيه الصور، تبقى بعض الأسماء عصيّة على الانكسار، لأنها وُلدت لتُثبت أن الشرف لا يُسقطه الظلم، وأن الوفاء للمؤسسة لا تحدّه العواصف. من بين هؤلاء يبرز اسم العميد الممتاز محمد الصادقي، رجل الميدان الذي عبر دهاليز التهم الموجعة ليعود أكثر صلابة، وأكثر إيمانًا بأن العدل، وإن تأخّر، فهو لا يغيب.

_من البداية الميدانية إلى الريادة التنظيمية

منذ التحاقه بأسلاك المديرية العامة للأمن الوطني، حمل الصادقي بين يديه مشروعًا شخصيًا عنوانه: الانضباط في خدمة المواطن. بدأ متدرّجًا في سلالم المسؤولية الأمنية، متنقّلًا بين المناطق والمهام، إلى أن تولّى رئاسة مفوضية أولاد تايمة، حيث نحت اسمه بحروفٍ من ميدانيةٍ صلبة. هناك، لم يكن ضابطًا إداريًا فحسب، بل قائد ميدانٍ يعيش التفاصيل اليومية للحياة الأمنية، من الدوريات الليلية إلى حملات التطهير ومتابعة الشكايات لحظة بلحظة.

وسرعان ما صار الرجل معروفًا بين سكان المنطقة بلقبٍ طريفٍ ودالّ: «ميسي الأمن» — ليس في الملاعب، بل في سرعة التحرك، ودقة التمرير الميداني، وذكاء توزيع المهام داخل مفوضيته. لقبٌ عفوي لكنه اختصر جوهر شخصيته: الحيوية، والدقة، والروح الجماعية.

_تجربة أولاد تايمة.. حين يصبح الأمن قريبًا من الناس

لم يكن الصادقي يكتفي بفرض الانضباط في صفوف رجاله، بل جعل من المفوضية فضاءً مفتوحًا أمام المواطنين. أبوابها لم تُغلق يومًا في وجه من يطلب المساعدة، واجتماعاته مع الفاعلين المحليين كانت تؤسس لثقافةٍ جديدة قوامها الثقة والتواصل.

في ظرفٍ وجيز، تحوّلت المفوضية إلى نموذجٍ يُحتذى في التدبير الأمني المحلي، وارتفعت مؤشرات الثقة بين المواطن وجهاز الأمن، وهو ما وثّقته تقارير المديرية العامة نفسها، لتضع اسمه ضمن لائحة الأطر التي أثبتت كفاءتها على الأرض.

_مرحلة إنزكان.. أصعب الاختبارات الميدانية

حين أُسندت إليه مهمة رئاسة المنطقة الأمنية لإنزكان أيت ملول، كان الجميع يعلم أن المهمة شاقة. فالمنطقة من أكثر الجهات كثافةً سكانية، وتعج بتحدياتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ مركّبة. لكن الصادقي، بخبرته وانضباطه، أعاد ترتيب البيت الداخلي، وأطلق خطةً ميدانية تعتمد على التواجد الاستباقي وتفعيل المقاربة التشاركية.

لم يكن يُدير من مكتبه، بل من الشارع، ومن قلب العمليات. شوهد غير مرة وهو يشرف شخصيًا على الحملات الأمنية، يوجّه عناصره، ويُنسّق مع السلطات المحلية، ليُرسّخ أسلوبًا جديدًا في القيادة: قائدٌ حاضر قبل رجاله، لا خلفهم.

_العاصفة.. حين يُمتحن الشرف

لكن القدر شاء أن يضع الرجل في امتحانٍ قاسٍ سنة 2017، حين طاله توقيفٌ مؤقت في إطار قضية ذات طابعٍ جنائي شملت مجموعة من رجال الأمن. كانت لحظةً صادمة لرجلٍ بنى سمعته على الانضباط.

سنواتٌ من التحقيقات والانتظار جعلت حياته بين مطرقة الإعلام وسندان الشك، لكن من عرف الصادقي لم يشكّ لحظةً في نزاهته. وحقًا، أنصفت العدالة صاحبها، فصدر الحكم النهائي ببراءته التامة، ليُطوى ملف الاتهام، وتُفتح صفحة جديدة عنوانها: الحق لا يضيع ما دام وراءه رجال.

_العودة.. بين الإنصاف والوفاء

ما ميّز قصة الصادقي أن المؤسسة الأمنية لم تُدر له ظهرها. فبمجرد ما أُعلن حكم البراءة، جاء القرار بعودته إلى صفوف المديرية العامة للأمن الوطني. كانت تلك لحظة رمزية عميقة: المؤسسة التي تُحاسب أبناءها، هي نفسها التي تُنصفهم حين تُثبت براءتهم.

العودة لم تكن عادية، بل عودة رجلٍ أكثر نضجًا وصلابة. التحق بولاية أمن الدار البيضاء، ليواصل العطاء بنفس الروح التي بدأ بها مشواره: هادئًا، صارمًا، مؤمنًا بأن الخدمة الأمنية ليست مجرد وظيفة بل رسالة وطنية مقدسة.

_درسٌ في الوفاء والعدالة

اليوم، حين يُذكر اسم العميد الممتاز محمد الصادقي، فإن كثيرين يرونه رمزًا لجيلٍ من الأطر الأمنية التي لم تساوم على الشرف، ولم تسمح لليأس أن يتسلل إليها رغم القسوة.

قصة الرجل ليست فقط سيرة مهنية، بل مرآةٌ للعدالة المغربية حين تنتصر للحق، ودليلٌ على أن جهاز الأمن الوطني، تحت قيادة مديره العام، يسير بثبات نحو تكريس ثقافة الاعتراف بالكفاءة والإنصاف للمظلوم.

في قاعة الاتهام وُلد الألم، لكن في ميدان الشرف استعاد العميد الصادقي اسمه وكرامته. ومن هناك، يواصل اليوم دربه، بنفس التواضع والانضباط، موقنًا أن الطريق نحو خدمة الوطن لا تُعبّد بالثناء، بل بالصبر والعطاء والإيمان بعدالة المؤسسات.

✍️بقلم: محمد بنهيمة – مدير موقع أفريقيا بلوس ميديا بالنيابة

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*