في الوقت الذي كان فيه ملايين المغاربة محاصرين داخل بيوتهم تحت قيود حالة الطوارئ الصحية، يقطعون أيامهم بين الخوف والالتزام والتقييد الصارم للحركة، كانت أطراف المنطقة الفلاحية الهادئة تعيش مشهدًا يناقض تمامًا ما فُرض على الناس: شاحنات ثقيلة تشقّ الصمت، آليات تضيء الليل بمصابيحها العالية، عمال يتحركون بلا توقف، وورش ضخم ينهض في قلب الحقول وكأنه مشروع سري يُدار بعيدًا عن أعين الجميع. المواطن كان يُغرَّم لمجرد خروجه لاقتناء الدواء، بينما ورش كامل يعمل في هدوء الليل وكأنه فوق القانون… وهذا وحده كافٍ لفتح كل الأسئلة التي لم تجد جوابًا إلى اليوم.
وفي منطقة يعرف فيها الناس تفاصيل بعضهم البعض، حيث بناء جدار صغير يتحول إلى حديث العامة، يبدو من المستحيل أن يمرّ ورش بناء قصر ضخم دون أن يثير الانتباه. الروايات التي حاول أصحاب المشروع تمريرها لم تكن فقط هشة، بل بدت مفصلة على المقاس: تصريح يناقض تصريحًا آخر، وتفاصيل تُضاف وأخرى تُحذف، وكأن الأحداث تُصنع حسب الحاجة. فمن أين جاءت اليد العاملة في ذروة الإغلاق؟ ومن سمح للشاحنات بالتحرك بينما كانت البلاد تحت منع شامل؟ وكيف اشتغل ورش ضخم بينما المواطن البسيط لم يكن قادرًا على تجاوز حدود حيّه؟ الأسئلة أكبر بكثير من التفسيرات المبتورة التي ظهرت، والتساؤلات أعمق من محاولة صناعتها كقصة بسيطة لا تستحق الضجة.
وسط هذا الضباب، خرج الحقوقي نبيل الوزاع، الأمين العام للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان ومحاربة الفساد، بتصريحات بدت في ظاهرها حاسمة وفي باطنها تترك أكثر مما تجيب عنه. الوزاع قال إن “استغلال ظرفية الطوارئ لتمرير ورش ضخم ليس تفصيلًا عابرًا، بل سؤال دستوري وأخلاقي قبل أن يكون تقنيًا”، وأكد أن المنظمة ستطالب بتوضيحات رسمية حول ظروف اشتغال الورش في الوقت الذي كان فيه المواطنون محاصرين داخل بيوتهم. حديثه بدا قويًا في الشكل، لكنّ الرأي العام اليوم لا يكتفي بالتصريحات الرصينة… بل ينتظر موقفًا صريحًا لا يتحرك على الإيقاع البطيء للتحفظات الحقوقية المعتادة.
الارتباك في الروايات التي قدمها المتحدث باسم المشروع لم يزد الناس إلا يقينًا بأن ما يُقال لا يمثل الحقيقة كاملة. فالرجل عدّل أقواله مرارًا، وغيّر التفاصيل، ونفى ما قاله بنفسه سابقًا، وكأن الوقائع تُصاغ حسب اللحظة. هذا التخبط جعل الرأي العام يرى أن الملف أكبر من مجرد “ورش بناء”، وأن المسألة تتعلق بمن يستطيع تجاوز القيود في عزّ الطوارئ، ومن لا يملك سوى الالتزام القسري والصمت.
المغاربة اليوم لم يعودوا يشترون القصص الجاهزة، ولا يبتلعون التبريرات المرتجلة. المجتمع الذي عاش الأزمات صار أكثر حدة في طرح الأسئلة، وأكثر وعيًا بالفجوات حين تظهر بين السطور. وحين يتضارب الكلام، ويكثر الصمت، وتستمر الفجوات بلا إغلاق، تصبح الأسئلة أكثر إلحاحًا: لماذا تغيّرت الروايات؟ ولمن يخدم هذا الغموض؟ ولماذا يستمر الصمت بينما الملف يتسع؟
وفي النهاية، وسط كل هذا الطنين، يبقى شيء واحد لا يتغير: الصمت يصرخ. الصمت الذي يخيّم فوق الملف هو الصوت الأكثر تعبيرًا. صمت السلطات، صمت أصحاب المشروع، وحتى صمت بعض الأطراف الحقوقية التي كان يُنتظر منها أن تتحدث بوضوح أشد. وبين قصر بني في عزّ الإغلاق، وروايات تتهاوى، وتبريرات تتبخر، سيظل السؤال قائمًا: من بنى القصر… ومن بنى الصمت؟
—إمضاء: محمد بنهيمة_ مدير جريدة أفريقيا بلوس ميديا بالنيابة
قم بكتابة اول تعليق