—
بقلم: محمد بنهيمة_جريدة أفريقيا بلوس ميديا
✓ تحقيق صحفي استقصائي – Editorial Investigative Report
قضية «كرملين بوسكورة» لم تعد مجرد ملف عمراني بسيط، بل تحوّلت إلى علامة فارقة على ضعف المراقبة، وتداخل المصالح، ومسار طويل من التجاوزات التي بدأت صغيرة وانتهت بأكبر عملية هدم عرفتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة، ما يطالب به الرأي العام اليوم ليس فقط معرفة ما وقع داخل الورش، بل معرفة من سمح لهذا الوحش الإسمنتي أن ينمو بعيداً عن أعين القانون، ومن ترك مشروع «دار الفرس» البسيط يتحوّل إلى كتلة خرسانية تتجاوز 4.300 متر مربع دون أي سند قانوني، وفي الوقت نفسه، يطالب المتابعون بوضوح رسمي كامل من السلطات حول مسار الملف منذ سنة 2019، وكيف تعاملت الأجهزة المحلية والإقليمية مع كل مرحلة.
المعطيات الثابتة تشير إلى أن المشروع بدأ بترخيص لبناء نُزل قروي على مساحة 400 متر مربع فقط. لكن ما ظهر لاحقاً على الأرض كان شيئاً مختلفاً تماماً: طابقان تحت أرضيين، بنايات ضخمة، توسعات متتالية، وورش يتحرك كما لو كان فوق القانون، ورغم أوامر الإيقاف التي صدرت منذ سنة 2020، ورغم الإنذارات والمحاضر الموجهة إلى وكيل الملك والعامل والوكالة الحضرية والجماعة، كان الورش يشتغل بين الحين والآخر، وهو ما جعل الكثيرين يتساءلون: كيف تُصدر مؤسسات الدولة قرارات رسمية ولا تُنفذ على الأرض؟ وكيف يتضاعف حجم ورش بهذه الطريقة دون تدخل ناجع؟
وتبيّن وسط هذا الجدل أن اسم «قصر الضيافة» لم يرد في أي وثيقة رسمية، وأن التسمية المتداولة لم تكن سوى غطاء إعلامي، بينما بقي الاسم الرسمي «دار الفرس»، كما تؤكد الوثائق أن المهندس الوحيد الذي وقع على التصاميم هو المهندس المغربي حسين مروان، الذي انسحب تماماً من المشروع بعد سحب الترخيص سنة 2023، لتبدأ بعد ذلك مرحلة من البناء غير القانوني، بلا مهندس وبلا إطار تقني، وهو ما يثير تساؤلات مشروعة حول مدى مراقبة الورش خلال تلك الفترة، وكيف استمرت الأشغال رغم سحب الترخيص نهائياً.
وقد اتخذت السلطات بدورها قرارات مهمة، أبرزها قرار عامل إقليم النواصر بسحب الرخصة في 17 نونبر 2023، ثم القرار النهائي للهدم بتاريخ 15 يناير 2025، الذي منح مهلة 48 ساعة لإخلاء المكان، وتشير الوثائق الرسمية إلى أن المالك رفض توقيع إشعار الهدم، ما دفع إلى تحرير محضر بالرفض، واضعاً حداً للجدل بشأن «الإخطار عبر واتساب». وفي النهاية، نُفذ قرار الهدم استناداً إلى المساطر القانونية الجاري بها العمل.
ورغم كل هذه الوقائع، يظل الشارع يطرح سؤالاً أكبر: من الذي سمح لهذه الوضعية بأن تستمر لأربع سنوات كاملة؟ وكيف استطاع مشروع صغير أن يتحول إلى هذا الحجم دون رصد فعّال؟ ومن هي الأطراف التي كانت تعلم وتلتزم الصمت؟ إن الرأي العام لا يريد إغلاق الملف عند حدود هدم البناية، بل يسعى إلى معرفة كل من ساهم في تضخّم الورش أو تغاضى عن مخالفاته، وعن كل مسؤول أهمل أو تأخر في تطبيق القانون.
ومع ذلك، فإن معالجة هذا الملف بشكل شفاف تتطلب من السلطات تقديم بيان أو تقرير مفصل يوضح للرأي العام ما جرى منذ 2019 إلى غاية الهدم، مع تحديد دقيق للمسؤوليات، سواء الإدارية أو التقنية أو التتبعية، وشرح الإجراءات المتخذة في حينها، وكيف تم التعامل مع كل تجاوز قبل اتخاذ القرار النهائي. إن هذا النوع من التواصل المؤسساتي يعزز الثقة بين المواطن والدولة، ويقطع الطريق أمام الشائعات، ويمنع إعادة إنتاج «كرملين» جديد في مكان آخر.
فالملف لا يخص بوسكورة وحدها، بل يمس جميع المناطق التي يمكن أن تشهد مشاريع تبدأ صغيرة قبل أن تنفلت من الرقابة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والتطبيق الصارم لمساطر التعمير، وتوضيح الحقائق للرأي العام، ليست مطالب شعبية فقط، بل التزام قانوني ودستوري، فالقانون فوق الجميع، ومن حق المواطنين معرفة كيف تحوّل مشروع قروي إلى «قلعة» عملاقة قبل أن يُهدم، ومن الواجب على السلطات كشف كل التفاصيل حتى تُطوى الصفحة بشفافية كاملة.

قم بكتابة اول تعليق